15 مايو 2024 09:01
حصري نيوز
الحدث وطني

الرسوب المدرسي في الجزائر والتجربة الأمريكية!

الرسوب المدرسي في الجزائر والتجربة الأمريكية (حصري نيوز)

لا تزال مختلف أطوار التعليم في الجزائر تتخبط في بعض المشاكل التي حالت دون تطورها وارتقائها وتحقيقها النتائج الإيجابية المرجوة، ما جعل قطاع التربية يراوح مكانه دون تحقيق أي تقدم يذكر، رغم الأهمية التي يكتسيها، باعتباره الركيزة الأساسية لبناء مجتمع متعلم ومتحضر، بل والسبيل الأمثل لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة..

محمد قحش (نائب سابق عن الجالية/ الولايات المتحدة الأمريكية)

مما لا شك فيه أن النية موجودة والجهود قائمة لإصلاح المنظومة التربوية، إلا أن هذا لم يمكن للأسف، من تقليص حجم الفجوة القائمة في هذا القطاع، أو بمعنى أصح، لم يمكن من إصلاح الخلل أو حتى استدراك التأخر الذي تشهده مختلف الأطوار التعليمية في المنظومة التربوية، إذا ما قورنت بالتقدم الكبير والتطور الرهيب الذي بلغته الدول المتقدمة في هذا المجال، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، التي توصلت منذ سنوات عدة إلى تحقيق نتيجة صفر (0) راسب في مختلف أطوارها التعليمية، ولهذا أرى أنها أفضل نموذج يمكن الاقتداء به لتحقيق هذه النتيجة التي تطمح إليها كل شعوب العالم..

وبالنظر إلى الفرق الشاسع بين الحالتين، آلاف الراسبين في الجزائر، وصفر راسب في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن قطاع التعليم في الجزائر، بات يقتضي تشخيصا دقيقا وسريعا، للكشف عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء النتائج الهزيلة المسجلة في الأطوار التعليمية الثلاث، الابتدائي والمتوسط والثانوي، بالنظر إلى الأرقام المخيفة لأعداد الراسبين من جهة، والتسرب المدرسي من جهة أخرى! المسجلين في مختلف هذه المراحل التعليمية.

مليون راسب في الأطوار الثلاث!

إن ما دفعني إلى إثارة هذه المسألة أو بالأحرى هذه الإشكالية، هي الأرقام التي كشف عنها المجلس الاقتصادي والاجتماعي “كناس”، حيث تشير أحدث الاحصائيات لديه إلى رسوب مليون تلميذ في السنة الدراسية 2021-2022، نعم!! مليون تلميذ أعاد السنة خلال الموسم الدراسي الماضي، في الأطوار التعليمية الثلاث، منها 330 ألف راسب في الابتدائي، و540 ألف في المتوسط، و252 ألف تلميذ راسب في الثانوي.. لا يمكن أن نجد وصفا دقيقا لهذا الرقم المخيف!! الذي يعادل وربما يفوق بكثير التعداد السكاني لبعض الدول، أنسب من “الكارثة العظمى”! نعم كارثة بكل المقاييس والأبعاد، بل إن هذه النتائج المؤسفة والمخيبة للآمال، تحيلنا بالضرورة إلى طرح عدة تساؤلات، كيف وصلنا إلى هذا؟؟ ولماذا يحدث هذا عندنا في عصر التطور العلمي وتحديات الذكاء الاصطناعي ورهانات الرقمنة؟ أين تكمن نقاط الضعف في منظومتنا التربوية؟ وأين الخلل الذي جعلها تحصد هذا الحصاد المر، وتتكبد هذا الإخفاق؟ لأنه فعلا كذلك !

التجربة الأمريكية.. صفر راسب!

سأحاول من خلال هذه المساهمة، أن أستعرض بعض الشيء من تجربة التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي توصلت اليوم إلى استحداث عدة أقسام تحضيرية، بغية اكتشاف مواهب الأطفال في سن مبكرة، و طبعا هذا يتوقف على قدراتهم التي تختلف أكيد من طفل إلى آخر، وكذا ميولاتهم وقدراتهم الذهنية والذكائية، لإحاطتها بالرعاية والمتابعة والاهتمام اللازم، والحرص على مرافقتها والسهر على تطوريها في المستقبل، حيث فتحوا القسم التحضيري 1 للأطفال الذين تبلغ أعمارهم 3 سنوات، والتحضيري 2 لمن يبلغون 4 سنوات، والتحضيري 3 للأطفال الذين يبلغ سنهم 5 سنوات، بعدها تأتي السنة الأولى ابتدائي للتلاميذ البالغين 6 سنوات، ولأنهم يؤمنون بمدى أهمية الطور الابتدائي، الذي يعتبرونه الركيزة الأساسية لمختلف المراحل التعليمية، فإن نسبة النجاح لديهم فيها تكون مضمونة 100 بالمائة.

لقد تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من انتزاع كلمة “رسوب” من قاموس مناهجها التعليمية تماما، فسياسة “صفر راسب” التي تعتمدها منذ سنوات عدة، سارية في الكثير من الدول لاسيما الأنجلوساكسونية، لأنها رأت أن هذا سيوفر عنها، أو بتعبير أدق، سيقضى على الأمية و يجنبها الكثير من الرواسب الاجتماعية، ويحصن أطفالها من المشاكل والعقد النفسية، بما فيها الكراهية والانتقام والحقد، والغيرة بمفهومها السلبي طبعا، حتى يكبر بطريقة صحيحة وصحية، لأن الاخفاق والرسب عادة ما يكسر نفسية التلميذ ويحطم معنوياته، وينمي مركب النقص والضعف لديه، ويجعله في هذه الحالة يكره الدراسة، ويعزف عن مواصلة تعليمه، وقد يتطور هذا لديه في المستقبل، ليتحول إلى ظواهر وآفات اجتماعية خطيرة، قد يصعب التحكم فيها والقضاء عليها، لأنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع نسبة الأمية، التي قطعت الجزائر أشواطا كبيرة لمحوها، بل وإلى تفشي مختلف أشكال الانحراف والاجرام.

استحداث طرق جديدة للتعليم

تمنح الولايات المتحدة الأمريكية اختيارات عدة وسهلة في طرق التدريس لعائلات التلاميذ لمن يرغبون في ذلك طبعا، وممن لديهم المقدرة على ذلك أيضا، لاسيما العائلات التي لها ظروف إستثنائية، ومن هذه الطرق هناك ما يعرف بـ“Home Schooling”، أي “التعليم في البيت”، حيث يتولى الأولياء تدريس أبنائهم في منازلهم، مع الالتزام بتطبيق المقررات الدراسية، دون حاجة تنقل أبنائهم إلى المدرسة، علما أن العائلات التي اختارت هذه الطريقة لأسباب خاصة، أكدت بأنها مهمة للغاية وخاصة في الظروف الاستثنائية التي شهدها العالم بسبب فيروس كورونا، بل إنها أثبتت أنه لابد من إرساء عدة اختيارات في التعليم، والاجتهاد أكثر في تطوير أساليبه، وتجاوز الطرق التقليدية إذا اقتضى الأمر، بما يلائم مختلف شرائح المجتمع، ويلبي رغباتهم ويناسب احتياجاتهم، ويتماشى مع كل الظروف بغض النظر عن طبيعتها.

إجبارية التأطير والتكوين للمعلمين والأساتذة

بالنسبة للمعلمين والأساتذة، فإن الولايات المتحدة الأمريكية صارمة في هذا الجانب، حيث لا يمكن قبول أي معلم أو أستاذ في سلك التعليم، مهما بلغ مستواه التعليمي، حتى لو كان متحصلا على شهادة الماستر والدكتوراه، وأعلى الشهادات الجامعية، ما لم يتلق تكوينا متخصصا في التدريس، وملما بطرقه الصحيحة وتقنياته المختلفة، التي تعنى بالجانب البيداغوجي والعلمي والنفسي  والاجتماعي وكل ما يتعلق بالتواصل والتعامل مع مختلف الحالات الاجتماعية، التي تتطلب الصبر والسلاسة والليونة والقابلية في التكيف معها، وبموجبه يتحصل على “شهادة معتمدة”، تؤهله بأن يكون معلما أو أستاذا، والتي تعتبر إجبارية في التوظيف بسلك التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية..

وليس عن طريق الإدماج لحاملي الشهادات الجامعية ممن تعذر عليهم الحصول على عمل في مجال تكوينهم الدراسي، دون تلقى أدنى تكوين حول تقنيات التدريس، كما هو الحال عندنا، وقد يكون غياب التكوين الأمثل للمعلمين والأساتذة، من بين أهم الأسباب التي تقف وراء النتائج الهزيلة والأرقام المرتفعة لعدد الراسبين المسجلة في قطاع التربية، الذي جعل حلقة التواصل مفقودة بين الأساتذة والتلاميذ في غالب الأحيان، والعلاقة بينهما ليست على ما يرام، بل وفاقدة للانسجام وللجو العائلي والاحترام المتبادل في الكثير من الحالات، التي نجد فيها التلميذ مكره والأستاذ مجبر، مادام ليس لهذا الأخير خيار آخر لمزاولة المهنة التي يريدها وليس حبا فيها، في حين فإن البيئة التعليمية الصحية، تفرض على المعلم أو الأستاذ أن يكون العين الساهرة على تلاميذه، وحريصا على التواصل المتواصل مع أوليائهم، لإخبارهم بكل ما يخص أبناءهم قبل فوات الأوان، لأنهما في هذه الحالة، المعلم وولي الأمر، يتقاسمان مسؤولية التلميذ.. إن التدريس هو قبل كل شيء مسؤولية ثقيلة، لا يمكن لأي كان، أن يتحملها ويؤدي هذا الواجب بإتقان وعلى أكمل وجه، ما لم يكن محبا لهذه المهنة النبيلة، لأن المعلم في نهاية المطاف هو مربي أجيال.

هاجس الاكتظاظ ومجانية النقل المدرسي

من بين الأمور التي يجب مراعاتها وإعادة النظر فيها، لتجنب الرسوب والتسرب المدرسي، هي ظروف التمدرس، لاسيما فيما يتعلق بالنقل، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية دائما، تسهر على توفير النقل مجانا لكل التلاميذ، وفي مختلف الأطوار التعليمية، الابتدائي والمتوسط والثانوي، باستثناء الجامعي، لأن الطالب في هذه الحالة، إن لم يكن مقيما في الحي الجامعي، عليه أن يعتمد على نفسه من أجل الذهاب إلى الجامعة، على العكس في الجزائر، فإن الدولة توفر النقل للطالب الجامعي ويستثنى منها ما دون التعليم العالي، علما أن من بين أسباب التسرب المدرسي في الجزائر، ناجمة عن غياب النقل، فلماذا لا يزال هذا المشكل مطروحا رغم الأهمية التي توليها الدولة لقطاع التعليم؟ وهناك أيضا معضلة اكتظاظ التلاميذ في الأقسام، التي تعتبر نقطة سوداء في قطاع التعليم بالجزائر، في ظل وجود أقسام يتجاوز عدد التلاميذ فيها 40 متمدرسا، في الكثير من مناطق الوطن!!..

بلعابد يدعو لتحديد النقائص في الإطعام والنقل المدرسي

أمر مناف للمنطق ولا يستوعبه العقل!! لأن الاكتظاظ في الأقسام يؤدي بالضرورة إلى ضعف التحصيل العلمي للتلاميذ، ويجعل مهمة الأستاذ هنا شبه مستحيلة، حيث يصعب عليه التحكم في هذا العدد الهائل للتلاميذ في القسم الواحد ومتابعتهم، لا يجب أن يحمل المعلم والأستاذ فوق طاقته، علما أن التجارب والدراسات والأبحاث العلمية، أثبتت أن عدد التلاميذ لا يجب أن يتعدى 20-25 تلميذا في كل قسم، وفي مساحة لا تقل عن 60-70 متر مربع، وهو ما تطبقه الولايات المتحدة الأمريكية وكل الدول المتقدمة والمتطورة في منظومتها التعليمية والتربوية، وعليه المدرسة الجزائرية التي لا تزال تتخبط في مشكل الاكتظاظ المدرسي؟!

بالنسبة للتعليم المتوسط مثلا، إجبارية حصول التلميذ على امتحان شهادة التعليم المتوسط للانتقال إلى التعليم الثانوي، وعدم أخذ معدله السنوي، حتى لو كان الأعلى بعين الاعتبار للعبور إلى الطور الثالث؟؟ في حين أن الأصح في اعتقادي، هو أن انتقال التلميذ إلى الثانوي يكون على أساس معدله السنوي، حتى لا ننقص من مجهوده طوال العام الدراسي، ونثمن النتائج الجيدة التي تعب من أجل الحصول عليها، في حين يكون امتحان شهادة التعليم المتوسط بالنسبة لهؤلاء، بمثابة موعد للإثبات تفوقهم، وفرصة ثانية لغيرهم للاستدراك من أجل تحقيق نسبة النجاح 100 بالمائة، لأن هذا سيكون أكبر حافز لمن تحصلوا على نتائج ضعيفة خلال السنة الدراسية ودعم نفسي لهم للاجتهاد أكثر في الثانوية.

هكذا يستشرف المستقبل

يعتمد الأمريكيون في نظامهم التعليمي على طريقة خلط التلاميذ خلال كل عام دراسي، تكون نتيجة ذلك،  أن التلميذ في الابتدائي مثلا، ينهي هذا الطور التعليمي بالدراسة مع كل تلاميذ المدرسة الابتدائية التي درس فيها، بمعني كل عام دراسي يحتك بزملاء جدد، ونفس الشيء لدى انتقاله إلى المتوسط و الثانوية، قد يبدو هذا للبعض غير مهم، لكن الأمر عكس ذلك، لأن الغاية من وراء هذه الطريقة المعتمدة، من وجهة نظر الأمريكيين والخبراء، هي الحرص على خلق مجتمع متعارف ومتراص ومتجانس ومنفتح، لأن هذا سيؤدي مستقبلا إلى الحصول على نتائج إيجابية لدى اندماجهم في الحياة العملية.. من جهة أخرى، فإن التعليم الثانوي في الولايات المتحدة الأمريكية يشبه التعليم المتوسط من حيث المبدأ، بمعنى، ليست هناك شعب متخصصة في مواد بعينها مثلما هو سار في الجزائر، بل إن التلميذ في المتوسط يستكمل تعليمه في الثانوي بنفس الطريقة السائدة في المتوسط، وهذا استنادا إلى حقيقة علمية أكدت أنه ليس هناك عقل أدبي وآخر علمي، فالتلميذ لابد أن يدرس كل المواد، سواء كانت علمية أو أدبية، بعد البكالوريا يقرر ما سيختاره وهذا يتوقف طبعا على موهبته ورغبته.

لقد توصل الأمريكيون إلى أن التلميذ لا يمكنه أن يحدد مسار دراساته العليا، إلا بعد استكمال مرحلة التعليم الثانوي، فمن هنا تنضج الفكرة لديه وتتضح له الصورة أكثر لاختيار المجال الذي يريد أن يدرسه ويتخصص ويتفوق فيه وليس قبل ذلك.

ما يمكن استخلاصه من التجربة الأمريكية في مسألة التعليم، هو أنها مُبسطة وسهلة  وخالية من أي تعقيدات، سلسة ومرنة ونتائج نجاحها مضمونة، وهو ما يجب أن تأخذه إصلاحات المنظومة التربوية بعين الاعتبار، حتى تتمكن من الخروج من التركيبة المعقدة التي باتت عليها، وأدخلتها في متاهات، وحالت دون تطور هذا القطاع وتحقيقه النتائج المنشودة، لاسيما فيما يخص، طرق التعليم المعتمدة وظروف التمدرس التي تشهدها المؤسسات التربوية، لأن كل هذه الحلول والمقترحات متاحة لديها وفي متناولها، لماذا إذن، ترك طرق التعليم السهلة المؤدية للنجاح، واللجوء إلى المناهج الصعبة التي يكون مآلها الإخفاق؟  فلماذا لا نبادر إلى إطلاق برامج توأمة بين الابتدائيات والمتوسطات والثانويات الجزائرية، مع نظيراتها الأمريكية أو العالمية، ونشجع على فتح المدارس الخاصة والعالمية في الجزائر.

لا ينبغي المجازفة بالتعليم والاستهانة به، لأنه سلاح الأمم المتقدمة والمتطورة والمتحضرة، لهذا لا بد أن يكون التعليم في الجزائر، أكثر انفتاحا على العالم، إذا ما أراد أن يتطور ويرقى إلى مكانة أعلى، ويحظى بالسمعة التي يستحقها بين الدول. لو لا التعليم السوي والناجع والناجح، والعلم والمعرفة، لما تمكنت الدول القوية والمتطورة من إحداث الثورة الصناعية والاقتصادية والرقمية وابتكار التكنولوجيات المتطورة، التي باتت تتحكم اليوم في العالم برمته، نعلم أن الكل يعرف ويسلم بهذا، لكن كان لابد من التذكير به لعل الذكرى تنفع المؤمنين، والقائمين على هذا القطاع المهم والحساس.

محمد قحش (نائب سابق عن الجالية/ الولايات المتحدة الأمريكية)

المقالات دات صلة

امتحانات تعويضية للمتغيبين عن تقييم المكتسبات

لينا. خ

الرئيس تبون يحل بشرم الشيخ للمشاركة في قمة المناخ

لينا. خ

رئيس الجمهورية يوجه رسالة بمناسبة يوم الطالب

لينا. خ

أترك تعليقا